
كلنا نعرف الاختراع الغربي المسمي بالدولة الحديثة التي بنيت علي أسس استقرت عليها المجتمعات بعد عدة ثورات، وانتهت بتقنين شئون الحياة في دستور يتم الاستفتاء عليه، يقوم علي ثلاث سلطات منفصلة، مجلس للشعب منتخب ليشرع القوانين ويراقب السلطة الثانية، وهي السلطة التنفيذية أي الحكومة، والثالثة هي السلطة القضائية التي تفصل في المنازعات بكل أشكالها، في هذه الدولة يتم تداول السلطة عن طريق الانتخابات، وكل شعب متعلق من عرقوبه ويتحمل مسئولية الحكومة التي يختارها، وكانت مصر قد دخلت بقدم واحدة في هذه الدولة بعد ثورة 19 وحتي عام 1952 .
أما الدول الأحدث التي انتشرت في منطقتنا فهي الدولة الثورية، وهي لا تقوم نتيجة لثورة الناس، بل لتمكن مجموعة قليلة من الاستيلاء علي السلطة بالقوة نيابة عن الشعب رغم أنه لم يكلفها أو ينتخبها، وبالتالي هي مؤقتة حتي تصبح دولة حديثة، ولكن الواقع أنها تظل ثورية حتي إشعار آخر.
يتم تداول السلطة بين أفراد هذه المجموعة عن طريق تصفية بعضهم البعض، وبحكم أنها سلطة مطلقة «مش ثورية؟» تغير القوانين وتعدلها وتلغيها وتستحدث قوانين جديدة وتتغاضي عن تنفيذ بعض القوانين خجلا من أن تلغيها، ولأن الأسهل عدم تطبيقها ما دام الأمر بيدها ولا رقيب عليها، شعارها دائما «شعبي وأنا حرة فيه.. أغسله وأفرده وأطبقه وأكويه». هكذا قامت عندنا في يوليو من القرن الماضي جماعة سمت نفسه «بالحركة المباركة» وبعد عام غيرت اسمها في شهادة الميلاد إلي ثورة «فالأوراق الرسمية تحت يدها» وقلدتها حركات كثيرة حولنا، تحولت كلها إلي ثورات جابت عاليها واطيها، وظلت هذه الأنظمة ولا تزال تعزف لحنا واحدا، كل نظام يعزفه وحده بطريقته، وفشلت كل محاولاتهم للوحدة معا أو النصر في حروبهم. سواء علي الأعداء أو علي بعضهم! وفشلوا في التقدم الصناعي والعلمي والاقتصادي، لكن دولتهم مستمرة في الحكم لأنها مؤقتة! في حالة بث تجريبي، وكل نظام يذيع حصريا فيلم «الثورة الوطنية»! التي تصدرت القرارات وتعدل القوانين وتلغيها حسب ظروف النضال الخارجي والداخلي، فأصبح لنا أكثر من هوية فمعنا باسبور عربي ومصري وإسلامي وأفريقي، ونحن دولة مدنية ودينية في أن واحد، ونحن في حالة سلم وحالة حرب أيضا مع نفس العدو في آن واحد. ونتمتع باقتصاد حر وبجواره قطاع عام زي الفل ويساهمان معا في الفساد يدا بيد، وتعليم مجاني للجميع لا يوجد في أمريكا، وتعليم خاص أغلي مما في أمريكا، عندنا ليبرالية وأحزاب معظمها ورقية لا تعترف بالحزب الحاكم وتري أن الانتخابات مزورة لكنها تدخلها دائما ومعها جماعة الإخوان المحظورة بحكم القانون!
وتغير اسم مصر أربع مرات، وعلمها أكثر، كم من المصريين يعلم إن كان الطائر المرسوم علي العلم لنسر أم لصقر؟.. وكم منهم يعرف لماذا تغير من هذا لذاك؟ ولماذ ا لا نضع علي العلم صورة الثعبان الأقرع مثلاً باعتبارنا نعرفه أكثر الآن؟ أو فليكن سيفين أو فليكن جملة الله أكبر كعلم العراق الذي وضعت عليه بعد أن أجبر علي الانسحاب من الكويت. أو لماذا لا نضع عليه رسماً للهلال مع الصليب؟ أو يضع كل منا صورته علي العلم كما يضعها علي الفيس بوك؟
الكل يطالب بتطبيق القوانين علي الجميع - رغم تناقضها - إلا عليه هو، . فهو وحده حر في بلد حر تفعل فيه الحكومة المؤقتة الحرة ما تريد. وكل يفسر القانون بمزاجه وبذلك يبدع قوانين جديدة.
والدولة المؤقتة المستقرة تغري حكوماتها المؤقتة فقط بأن تعمل بالحكمة القديمة القائلة (الزمن كفيل بحل أي مشكلة )، فالزمن يجعل الناس تشيخ فتتراجع قدراتهم الجسدية والذهنية والنفسية يتخلصون من مشاكل الحب والزواج والطلاق ومشاكل العمل وقد خرجوا للمعاش، ويكبر الأولاد فلا يعودون يحملون همهم، ثم يأتي الموت بالحل النهائي لمشاكلهم، فلم الاستعجال؟
لكن الناس في مجتمعنا باتت وأصبحت وقد غابت عنها الحكمة وقد طال الصبر.. فكل الفئات والطبقات والطوائف ومن كل الأعمار، يتشاجرون ويصرخون يريدون من الدولة حلولاً ولو مؤقتة لمشاكلهم، فالناس علي دين دولهم المؤقتة! وهي ظاهرة تزداد من عام لعام وأصبحت من شهر إلي شهر، ويتحول الشجار بالسباب والبصق إلي استخدام الأيدي والأرجل والمطاوي والسيوف ثم الرصاص، نري هذا علي صفحات الصحف وفي الفضائيات والطرق والجلسات، أي جلسات وأي مؤتمرات وأي اجتماعات وفي المدارس والجامعات وأقسام الشرطة وحفلات الغناء ومكاتب التحقيق وبين المحاميين والقضاة. الكل ضد الكل، ولا عجب فالحكومة المؤقتة للدولة المؤقتة المستقرة وصلت لحل يرضي جميع الأطراف، ملخصه: كل وحد يقدر علي حاجة يعملها وحنا نعمل نفسنا مش شايفين. خاصة واحنا مش فاضيين، بس لما يزودها قوي والباقي يشتكوا منه جايز أتدخل وهي تتدخل أحياناً لفض منازعات الناس كالأب الذي يتدخل ليهدئ أطفاله وهم يتشاجرون أثناء اللعب. مش كد يا أبني.. عيب يا بنت.. وبعدين معاكم بقي؟ وانتوا اخوات، ما تخلونيش ازعل منكم يبقي كويس لما أحبسكم في أوضة الفيران أو أمنع عنكم المصروف؟ تعالوا صالحوا بعض وكل واحد يبوس راس التاني.
لا توجد دولة تعيش للأبد كدولة مؤقتة، ولكننا لا نعرف مؤقتة إلي متي؟ ولا مدة اللعب في الوقت الضائع لنعرف متي يصفر الحكم تمهيداً لإعلان قيام الدولة الحديثة الدائمة. انتهي نص المقال السؤال الآن: هل ستؤدي بنا الثورة إلي إقامة دولة مدنية حديثة كما يعرفها العالم المتقدم؟ أم دولة شبه مدنية مؤقتاً؟
«عفواً في 22 يونيو 2010 قبل ستة شهر من قيام الثورة.. نشر هذا المقال تحت اسم الدولة المؤقتة، وقد وجدت من المناسب إعادة نشره».
0 التعليقات:
إرسال تعليق