الحق مع القوة. فالقوة تفرض ما تريد ثم تدعى أنه الحق. فمن يجرؤ أن يخالفها؟. يستسلم أغلبية الناس طلباً للسلامة ويسكتون لأن الكلام أقل فاعلية من القوة. ثم هم يشهدون مصير الذين يقفون فى وجه القوة ويجعلهم هذا يتعظون.
فالحياة لابد أن تستمر والعيال لا بد أن تأكل وتذهب للمدارس وتجد من يحميهم. وهكذا يصبح الاستسلام التام أم الموت الزؤام هو دين المرحلة. وإذا كنت فى بلد تعبدالطور حش وأرمى له. فتتكون فصائل من المنافقين تلحق بركب القوة طلباً للنفوذ والمال والكسب الحرام أو على الأٌقل لدفع الأذى عنها. ويفرض الواقع نفسه طالما استمرت القوة التى جاءت وفرضت هذا الواقع. والتاريخ يكتبه المنتصرون بغض النظر تماماً عن الحقائق. المنتصرون على أمم أخرى أو المنتصرون على شعوبهم. وهكذا وبعد وقت قليل من وجود القوة وسكوت الآباء عن قول الحق حتى للأبناء خوفاً عليهم ينشأ جيل جديد ليرضع من التاريخ الذى فرضته القوة، يتعلمونه ويحفظونه فى المدارس والجامعات ويسمعونه فى الراديو ويشاهدونه فى التليفزيون. خطب للزعيم وأغان وأناشيد وأخبار مفبركة ومقالات حنجورية وقصائد وأفلام سينمائية ومسرحيات وتماثيل رخام ع الترعة وأوبرا. ويصبح هذا الركام من الأكاذيب كأنه التاريخ الحقيقى للأمة وحدث بالفعل. وهو تاريخ يجعل الشباب الصاعد يتيه فخراً بوطنه وزعيمه على العالمين. وقد عشت هذا كله وتحمست بهذا كله بالرغم من أنى من والدين لم يقتنعا بهذا كله!
كنت فى الثانية عشرة من عمرى عندما طبعت ومعى بعض أقاربى وجيرانى مجلة فى إحدى المطابع الرخيصة. ولم نجد أفضل من اسم (الأحرار) لنطلقه على المجلة. وصادف هذا العيد الخامس لثورة يوليو المجيدة. وزينا غلاف المجلة بصورة الزعيم وهو يخطب فى الأمة بهذه المناسبة مرتدياً الملابس المدنية. أما الصفحة الأولى التى تليها فقد زيناها أيضاً بصورة الزعيم بالزى العسكرى وكتبنا تحتها نشيد ببطل الثورة وإنجازاته. ولكنى فوجئت بأبى يسألنى لماذا تحب عبدالناصر؟. دارت الدنيا بى وشعرت بكراهية لأبى وكأنه شيطان رجيم. ورحت أبحث عن إجابة فلم يسعفنى إلا مبادئ الثورة الستة التى حفظناها فى المدرسة وكتبناها فى الامتحان. منها تحقيق الديمقراطية والقضاء على الاستعمار وبناء جيش قوى. ثم توقفت وقد نسيت الباقى ورد على أبى بضحكة ساخرة وراح يفند ما قلته لكنى لم أسمعه. فالإذاعة والتليفزيون والصحف وكل الناس تردد ما قلته. فهل كلهم على خطأ؟.
تدريجياً وبعد عشر سنوات كنت قد تيقنت من أكاذيب الناصرية ولكن الشىء الوحيد الذى لم يخطر على بالى أن ننهزم للمرة الثانية بلا قتال فى عام 67.
كنت قد كتبت فى نفس المجلة قصة تهاجم التفرقة العنصرية ضد السود فى أمريكا. بعد أقل من ثلاثة عقود بدأت هذه التفرقة تزول والآن يحكم أمريكا رئيس أسود من أب أو جد مسلم. أما نحن فقد عشنا ستة عقود حكمنا خلالها أربعة رؤساء من العسكريين يعاونهم وزراء أغلبهم من العسكريين ومحافظين كلهم من العسكريين وحتى الأمس. هذه هى الناصرية التى دعت إلى القومية العربية وبدأت الدعوة فى سوريا بثلاثة انقلابات متتالية وشاعت الانقلابات فى المنطقة ووصلت إلى الدول الأفريقية. مؤخرا ظهر الربيع العربى حسب تسمية الغرب وسلم العسكر الحكم إلى جماعات الإخوان فى المنطقة، فهى الجماعات الوحيدة التى تملك ميليشيات مسلحة ومدربة وكأنها جيش آخر بصبغة دينية. وكما كان يجرى الاحتفال بمولد الرئيس ناصر الذى أصبح هو عيد الطفولة! رأينا الاحتفاء بذكرى وفاته منذ أيام للترحم على منجزاته ورأينا وسمعنا دراويشه وأولاده وأحفاده يتحدثون عنه وذهب مندوب من الرئيس الحالى لوضع الزهور على قبره كالمعتاد. وليس فى هذا جديد أو غريب. أما الغريب فهو تكوين جماعة ليبرالية تتصدى للإخوان ومن ضمن قادتها الناصريون. وهو اكتشاف رائع أن يصبح ناصر من الليبراليين وإحنا اللى ما كناش فاهمين.
أفهم أن يكون للناصرين حزب. بعد أن كان حزبهم هو كل الشعب المصرى بمسميات مختلفة. لكنى لا أفهم أن يكون التكوين الليبرالى الجديد يضم السيد عمرو موسى والدكتور البرادعى إلا إذا كانوا مازالوا يحفظون مبادئ الثورة الستة لبطل الأمة العربية. رحمه الله ويرحمنا جميعا ونحن أحياء. وأحمد الله أننى لم امش فى جنازة النحاس عندما توفى فى عصر الزعيم وبذلك نجوت من الاعتقال.
0 التعليقات:
إرسال تعليق