بعد تبرّؤ سيّد القمني من كل كتاباته
القتل إلكترونياً.. والاعتزال رعباً!
|
القاهرة ـ حمدي رزق
أي شريط بوليسي مرعب، ذلك الذي أُجبر الكاتب المصري سيد القمني على الاضطلاع ببطولته؟ ..
فعلى طريقة أشرطة المافيا الدامية، تلقى د. القمني ـ المعروف بكتاباته التاريخية واجتهاداته في نقد التاريخ ـ رسالة عبر البريد الإلكتروني تحمل عنوان (Alkatell@yahoo.com أو القاتل ياهو. كوم) يوم الخميس الماضي من رجل يطلق على نفسه "أبو جهاد القعقاع". الرسالة الإلكترونية حذرت القمني من القتل إذا لم يعلن تبرؤه من كل ما كتب!.
الصيغة التي وصلت إلى القمني الكترونياً انطوت على إرهاب واضح من سطرها الأول، فكاتبها قال للقمني ـ مخاطباً إياه "بالشقي الكفور" سيد محمود القمني، وهو اسمه الثلاثي , بأن خمسة من "أخوة التوحيد وأسود الجهاد" انتدبوا لقتله، وإنهم "عزموا أن يتطهروا من ذنوبهم بسفك دمك!"..
وأكد صاحب الرسالة تحذيره ".. لن نكرر تهديدنا مرة أخرى ولن تنفعك حراسة خاصة أو إجراءات أمان"، ومضى ممعناً في تهديداته، مؤكداً أن ثمة طرقاً لا حصر لها لاختراق أي نظام تأمين سيتبعه القمني، تعتمد على تفخيخ السيارات، أو طلقات نيران القناصة من أماكن غير متوقعة.
وأعلن "القاتل" ـ كما يقول اسمه البريدي الإلكتروني ـ مطالبه للقمني:
"أمامك أسبوع واحد لتعلن توبتك وبراءتك الصريحة التي لا مواربة فيها من كل ما كتبت من الكفرَّيات، وتنشر ذلك في مجلة روزاليوسف كما نشرت فيها كفرك..." والرسالة موقعة باسم "جماعة الجهاد ـ مصر"!
القمني لم ينتظر يوماً واحداً بعد "التهديد الإلكتروني" بالقتل، فانزعج تماماً ونفذ مطالب المنظمة الإرهابية المجهولة، وأصدر بياناً نصه: "تصورت خطأ في حساباتي للزمن أنه بإمكاني كمصري مسلم أن أكتب ما يصل إليه بحثي وأن أنشره على الناس. ثم تصورت خطأ مرة أخرى أن هذا البحث والجهد هو الصواب وأني أخدم به ديني ووطني. فقمت أطرح على الناس ما أصل إليه متصوراً أني على صواب فإذا بي على خطأ وعلى باطل. كنت أقصد الخير ولا أفرض رأياً ولا أتعسف موقفاً أخذ به من أخذ ورفضه من رفض وهاجمه من شاء. كنت أتصور وأنا مهموم بأمتي في زمن وظرف استثنائي على كل المستويات أني أساعد الناس بهز غفوتهم وأحياناً كنت أمعن في النقد قصداً حتى يفيقوا. كنت أظن أن أنبه للأخطار والتى كثيراً ما تحققت معها نبوءاتي بحكم قراءاتي التاريخ بحياد، وليس عن كثير ذكاء. كنت أتمنى أن أكون عاملاً مساعداً للحاق بآخر قوافل الحضارة وما ظننت أني سأتهم يوماً في ديني لأني لم أطرح بديلاً من هذا الدين ولا أرضى بالإسلام بديلاً، ولكن لله في خلقه شؤون، ولم يبق لي إلا أن أودع قرائي وهم أهلي وعشيرتي وناسي وأحبائي من القلب. وأعترف، سيكون الموت بكسر الأقلام موتاً بطيئاً فقلمي هو مناط حياتي، ولكن إقدامي على هذه الخطوة سيبقى لي من العمر ما يكفي لرعاية من يستحق رعايتي فلذات كبدي، هذا في حال قبول هذا البيان! ومن ثم أكرر خلف البيان التحذيري أنني أعلن براءة صريحة من كل ما سبق أن كتبته ولم أكن أظنه كفراً وأعلن توبتي وبراءتي من كل الكفريات التي كتبتها بمجلة "روزاليوسف" براءة تامة صادقة يؤكدها عزمي على اعتزال الكتابة نهائياً من تاريخ نشر هذا البيان بمجلة "روزاليوسف" حسب طلب البيان التحذيري. سيد محمود القمني!".
أصداء مثقفة
أصيب المثقفون المصريون _ على اختلاف مشاربهم ـ بصدمة كبيرة لدى نشر بيان القمني. فالرجل معروف بصلابته، مشهود له بالصبر على مكاره الثقافة، صودر له أكثر من كتاب في مصر، فكان دؤوباً في استصدار أحكام قضائية لإعادة كتبه إلى الأسواق، كما كان في كتاباته واحداً من أبرز المتصدين للتيارات الدينية المتشددة، حتى في ذروة صعود المد الإرهابي المسلح في مصر في عقد التسعينيات!
لم يتوقع المثقفون ولا قراؤه هذه الاستجابة السريعة والتامة لجماعة إرهابية مجهولة، وذهبوا في تفسير تصرفه هذا مذاهب كثيرة!
في مقاهي المثقفين بوسط البلد، كان ثمة بيان للتضامن مع سيد القمني يكتب في "أتيليه القاهرة" وتجمع عليه التوقيعات، أسوة بما فعله المثقفون المصريون في أزمة رواية "وليمة لأعشاب البحر" للسوري "حيدر حيدر" ـ العام 2000 ـ لكنهم هذه المرة انقسموا على أنفسهم ورأوا في النهاية ألا يصدر البيان، لما في ذلك من احتمالات خطر على حياة القمني ذاته، ولأن بيانه بالتبرؤ والاعتزال قطع قول كل خطيب، كما يقول المثل العربي القديم!
فسر البعض تصرف القمني على أنه خوف من أن يكون البيان التحذيري صادراً عن خلية لتنظيم القاعدة في مصر، بخاصة أن "تنظيم الجهاد" المصري الذي اغتال السادات 1981 أعلن مصالحة فكرية مع النظام قبل ثلاثة أعوام مشمولة بنبذه لأي عمليات مسلحة، فماذا عن جماعة "الجهاد ـ مصر" التي وقعت البيان؟ إذن هو فرع للقاعدة في مصر، وربما لا يكون متمركزاً فيها، لكنه قادر على تنفيذ العمليات. وبالطبع لم يستطع المثقفون الاستطراد أكثر من هذا، لأنهم ليسوا خبراء أمنيين!
كما فسَّر آخرون تصرف القمني على أنه مناورة في انتظار رد فعل المثقفين لكي يلتفوا حوله، أو رد فعل الأمن ليكثف الحماية عليه! فيما رأى مقربون منه مثل الكاتب المسرحي لينين الرملي والناشر المصري خالد زغلول ـ صاحب دار نشر "مصر المحروسة" ـ أن سيد القمني صادق تماماً بتصرفه حيال البيان، وأن لديه أطفالاً يحرص على تربيتهم، ولذا فهو أخذ البيان مأخذ الجد، بخاصة مع تفشي الإرهاب المسلح في الشرق الأوسط وكثير من أنحاء العالم، بواسطة (القاعدة).. وقواعدها!!
أما القمني نفسه، آثر أن يشمل بيانه بإعلانه التنفيذ الفوري. لم يكتف بالاعتزال النهائي للكتابة ولا بالتبرؤ من "الكفريات" التي كتبها ـ حسب نص التهديد، ونص الاستجابة ـ بل اعتزل الأضواء عموماً. هاتفه النقال مغلق، يرفض مخالطة الإعلام، منكب على أسرته وذاته، ربما تمر العاصفة بسلام، فيرضى المهددون عنه، بإلغاء عملية تصفيته جسدياً!.
وهكذا تخلص المهددون من رجل رأوه خصماً لأفكارهم، برسالة بريد إلكتروني، أنهوا بها 20 عاماً من تاريخ أبحاث سيد القمني ومؤلفاته.
قياديون إسلاميون
وفيما لم يتبين بعد إن كان القمني وأسرته سيلجأون إلى دولة غربية أم لا (على غرار إقامة نصر حامد أبو زيد في هولندا 1994)، فإن مواقف الإسلاميين منه بعد اعتزاله تباينت بين التهكم عليه شخصياً وبين النفي لأي علاقة لهم بالتهديد بقتله.
مثلاً، قال كمال حبيب، القيادي السابق في تنظيم الجهاد المصري أن ما ذكره القمني لا يعدو أن يكون "دجلاً ونصباً ومحاولة للتسول والارتزاق من بعض الجهات العلمانية في مصر التي تقدم له الدعم".
ولفت حبيب في بيان له نشره على شبكة الإنترنت إلى أن ما يسمى (تنظيم الجهاد) انتهى وجوده تماماًفى مصر من العام 1998 وأنه أوقف عملياته منذ 1995".
وفى بيانه أضاف حبيب الذي كان من طليعة دعاة "المراجعات الفكرية داخل الجماعات المتشددة في مصر أن القمني "أفلس بطروحاته المستفزة وغير العلمية ويرغب فقط في أن يبرز"!!.
أما المحامي الإسلامي والخبير في شئون الجماعات الإسلامية المصرية "منتصر الزيات" فبادر إلى نفي أية علاقة بين تنظيم الجهاد السابق وبين تهديد القمني، وقال إن الجهاد "جماعة يعرفها سيد القمني وحده" وقال أيضاً "القمني ساخر يستغل قدراته الفكاهية في الترويج ولفت الانتباه" وشدد على أنه ليس ثمة جماعة الآن تعرف بالجهاد، كما أن الجماعات الإسلامية كلها _ في ذروة نشاطها المسلح طيلة 20 عاماً ـ لم تنفذ سوى ثلاث محاولات لقتل مثقفين وكتاب، أولها محاولة اغتيال الكاتب الصحافي مكرم محمد أحمد ـ 1987 ـ والثانية في السنوات الأولى للتسعينيات بحق شيخ الرواية العربية نجيب محفوظ والثالثة جرت في الفترة نفسها وراح ضحيتها الكاتب فرج فودة.
لماذا!
لينف الإسلاميون علاقتهم بتهديد القمني، وليكن ما يكون من شأن شخصية هذه الرسالة الإلكترونية المرعبة. غير أن السؤال الذي يبقى هو: لماذا يتعرض سيد القمني تحديداً للترويع على هذا النحو؟ لماذا اختاروه؟
أولاً: عُرف القمني بهجومه المستمر على التيارات الإسلامية المتشددة، وعرف عنه أيضاً تصنيفه ككاتب إسلامي مستنير ـ بين العلمانيين ـ وككاتب علماني ـ في وصف الإسلاميين _ بحكم كونه تفرغ لأكثر من عقدين للكتابة عن التاريخ الإسلامي ـ خصوصاً ـ والتاريخ الشرقي بصفة عامة، ما جعله يتماشى والملف الديني ويتداخل معه ويخترقه عشرات المرات.
ثانياً: مقالات القمني في مجلة "روز اليوسف" في السنين الثلاث الماضية اتخذت اتجاهات أكثر عنفاً ووضوحاً. فالقمني تشدد أكثر في هجومه على الإسلاميين، وبخاصة تنظيم "القاعدة" الإرهابي الذي يترأسه بن لادن، كما شكك في نوايا الجماعات الإسلامية من مصالحتهم الفكرية مع النظام قبل ثلاثة أعوام، وهاجم كتاباً إسلاميين عرف بعضهم بالاعتدال والاستنارة مقارنة بغيرهم، مثل الكاتب محمد عمارة والعالم الراحل الشيخ محمد الغزالي، واتسم هجومه في "روزاليوسف" بحدة لفظية مستغربة!.
ثالثاً: ولعله العنصر الأهم في استهداف القمني، سلسلة كتبه التي أصدرها خلال 18 عاماً تقريباً.
"الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية" و"النبي إبراهيم والتاريخ المجهول" و"الأسطورة والتراث" و"حروب دولة الرسول" و"قصة الخلق منابع سفر التكوين" و"رب الزمان" و"النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة".
والحق أن كتب سيد القمني المذكورة كانت في طليعة الأسباب التي أثارت حفيظة خصومه طيلة السنين الماضية، ولعلها في طليعة ما أثار حفيظة الإرهابيين حياله من الأسباب أيضاً! فأما خصومه في الرأي فتمتد أصواتهم بين كل التيارات السياسية المصرية يميناً ووسطاً ويساراً، ناهيك بالإسلاميين، كذا فإن للقمني خصوماً كثيرين بين علماء التاريخ والآثار والأديان المقارنة من الأكاديميين غير ذوي الإنحيازات السياسية. وأما الإرهابيون الذين هددوه، فإنهم اعتبروا ما كتبه ـ جملة وتفصيلاً ـ من "الكفريات" التي توجب الاستتابة والتبرؤ!.
وطبيعي أن يختلف العلماء الأكاديميون مع القمني. فالرجل ليس دارساً للتاريخ الفرعوني متخصصاً فيه، ومع ذلك فإنه يؤسس لفرضيات بعينها، ويسلم بأنها حقائق، ثم يبني فوقها حقائق تاريخية، فتغدو البناية كلها معيبة، لأن أساسها ليس إلا افتراضاً قد يكون خطأ.
ولأن العلماء ـ وبخاصة المؤرخين والأثريين ـ لا يعتدون إلا بالدليل الملموس الدامغ، فإنهم عدّوا ما يكتبه القمني اجتهاداً شخصياً، حتى إن الراحل عبدالعزيز صالح شيخ الأثريين المصري حين سئل عن كتابات (القمني) في قصة النبي إبراهيم والنبي موسى اللذين ربطهما بشخصيات من الملوك الفراعنة _ وكان ذلك بندوة في مكتبة الإسكندرية ـ قال "لا أعرف القمني شخصياً، لكني قرأت شيئاً مما يكتب.. وهذه خرافات ما أنزل الله بها من سلطان!". أيضاً فإن كتابات القمني بالغة الجرأة في أحكامها الافتراضية التي يؤسس عليها حقائق مهمة.. مثل ربطه في أحد كتبه "أوزيريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة" بين ثورات مهمة قام بها الشعب المصري ضد بعض فراعنته، وبين عبادة الشعب لأوزيريس، مع أن الدراسات العلمية تقطع بأن أوزيريس كمعبود لم يكن له أي شأن في الحقب التي شبت فيها هذه الثورات.
كاتب المصادرات
أما الكتب التي ارتبطت في أذهان الناس بالمصادرات فهي كتب القمني الإسلامية، وهي الموضوع الأخطر. فالقمني أيضاً ذهب إلى فرضيات قاطعة أسس عليها نتائج لها خطورتها في التاريخ الإسلامي، ما أغضب المؤرخين والسلفيين على حد السواء! وأول هذه الكتب وأكثرها تعرضاً للجدل كان "الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية" الذي صودرت طبعته الأولى "عن مدبولي الصغير" فاستصدر القمني حكماً قضائياً لإعادة طرحها مجدداً، فتم له ما أراد وطبع الكتاب أربع طبعات كانت الأخيرة منها في العام 1996 ملاقياً رواجاً لا يقل في حجمه عن الجدل الصاخب الذي اندلع بشأنه!.
ولعل في مقدمة كتاب "الحزب الهاشمي" ما يشفي غليل من يتصدى لتحديد أو تصنيف منهج القمني الذي أثار عليه الخصوم بالقلم ـ والبريد الإلكتروني أيضاً. مثلاً يقول القمني في مطلع المقدمة "لم يكن جديداً ولا غريباً أن يلبس الهجوم على هذا الكتاب زيّه المعتاد. فالرأي الواحد الأحد هو الصواب الأوحد، وما خالفه زندقة ومروق، ومن قال بما يبدو لهم مخالفاً يصبح كافراً مستباح الدم، حتى لو كان ذلك المهاجم ممن استطابوا لأنفسهم لقب الإسلام المستنير...". ويمضي القمني مؤكداً أن كتاباته تقع في دائرة "..التاريخ الاجتماعي الاقتصادي وليست في دائرة الدين أو أي من علومه..." مؤكداً أيضاً أن "هذا اللون من القراءة للتاريخ صدم مقولاتهم الثابتة فلم يروا فيه سوى المروق...".
الملاحظ من هذه المقدمة أن القمني استهلها في سطرها الأول ومضى بها إلى مستقرها في السطر الأخير مستخدماً ضمير الغائب. لم يتكلم موضحاً عن الفصيل الذي يبادله التحدي الفكري، مع أنه من الواضح تماماً أن ذلك الفصيل ليس سوى المتشددين الإسلاميين!.
وحول الحزب الهاشمي "انطلقت أول معركة جدل حول اسم القمني انتصر له فيها اليسار ـ كما هو واضح من كتابة فريدة النقاش عنه ومن كتابة الراحل خليل عبدالكريم ـ الإسلامي اليساري ـ عنه أيضاً، فيما اندفعت الصحف والمجلات الإسلامية تهاجمه وتتهمه بالزندقة، ولم يأنف كاتب إسلامي مقروء وحريص إلى حد ما على التوازن والظهور بعقلانية مثل فهمي هويدي من التصدي للقمني في مقال شهير له بـ"الأهرام" (23 آذار ـ مارس 1989) عنوانه "التعدد لا التعدي"، وأخذ هويدي على القمني ـ بلغة مهذبة ـ إزالته حالة القدسية عن النص القرآني ـ حسب نص هويدي ـ واعتبار القرآن تراثاً قابلاً للنقد والتفكيك أيضاً حسب نص مقال هويدي!.
آنذاك ـ أيضاً ـ تصدى مؤرخون محايدون على صفحات "الأهرام" و"الوفد" لكتابات القمني كالمؤرخ الراحل سعيد عاشور رئيس قسم التاريخ الأسبق بآداب القاهرة الذي كتب مقالاً شهيراً في "الأهرام" ـ 13 أبريل، نيسان 1989 ـ بعنوان "النبوءة... والمؤرخ" نصح فيها القمني بأن ينكبّ على أبحاثه الفلسفية (تخصصه الأصلي) ويبتعد عن التاريخ، لأنه حين يرتدي عباءة المؤرخ يصير أقرب إلى المتنبئين والمنجمين.
الصدمة والتحول
لكن القمني مضى على طريق قناعاته التي يؤمن بها. بل وصل لما هو أبعد حين تكلم عن النبيين إبراهيم وموسى رابطاً بينهما وبين الحضارة الفرعونية. ثم تكلم عن فكرة التحول في العبادة حسب مقتضيات الزمان الاقتصادية والاجتماعية في مؤلفه "رب الزمان". عموماً، صار القمني حالة ومنهجاً مستقلين، اختلف معه خصومه اختلافاً واسعاً، غير أن ثباته على منهجه أكسبه احترامهم، وصار القمني حالة مألوفة في الثقافة المصرية في التسعينات!.
لكن اليسار الذي طالما دافع عن كتابات سيد القمني صدم بكتاباته في "روزاليوسف" لأنها كشفت تحوله من مؤرخ يساري يأخذ بالمنهج الاقتصادي الاجتماعي في تحليل الظاهرة التاريخية (بصرف النظر عن صحة ما يتوصل إليه من نتائج...) إلى مفكر ليبرا لي على صفحات هذه المجلة، ما سحب منه برأيهم حقه في التأريخ بالمنهج الماركسي. وهكذا لم يبق لسيد القمني من نصير يؤازره في معاركه الفكرية في السنوات الأخيرة. صار الكل خصوماً له، اليسار يحاسبه على تحوله الليبرالي، والإسلاميون يحاسبونه على تعدياته التي رأوا فيها مروقاً واضحاً، والأكاديميون يحاسبونه على نتائج أبحاثه، لكن حفظ الجميع لسيد القمني تمسكه بالعقلانية طوال الوقت ـ وبرغم كل التحولات ـ وتآلفوا معه وتآلف معهم، على ما في القلوب من العتاب!.
ويلخص القمني كل أفكاره في فقرة اختتم بها مقدمة كتابه (الحزب الهاشمي) بقوله: "ولأننا لا نتصور إمكان حدوث المعجز الملغز، ولا أمر جلل دون مقدمات موضوعية تماماً تؤدي إليه وتفرزه، فلم يبق سوى أن نحاول إعادة قراءة التاريخ قراءة أخرى، تربط النص بواقع وتعيد النتائج إلى مقدماتها وأصولها الحقيقية لا الوهمية، من أجل إعادة تشكيل بنية العقل ومنهجه، ومن أجل غد أفضل لأجيالنا المقبلة "ولتراثنا ذاته"!.
هذا هو مشروع القمني الذي اختلف معه الكثيرون واتفق معه البعض، وتعايش معه الجميع وارتضاه هو لنفسه ولقلمه، ولم يكن ثمة من يتصور أن هذا المشروع سوف يفضي بالقمني إلى الرضوخ ـ يوماً ـ لرسالة ترويع بالبريد الإلكتروني، قتلته رعباً وأجبرته على الاعتزال.
0 التعليقات:
إرسال تعليق